عسكري مرور امام الكنيسة شاهد عيان
لم يترك مكان خدمته ليشاهد الماتش أو ليشتري ساندوتش فول, أو يصب لنفسه كوب شاي مع صديق له من داخل الكنيسة أو علي الرصيف المجاور لها.
لم تكن يده تحمل غير القلم ودفتر المخالفات, وفي الدفتر أرقام لسيارات كسرت الإشارة, أو وقفت في الممنوع, أو عطلت حركة المرور منذ الساعة الثامنة مساء إلي ما يقرب من منتصف الليل, لكن نادر محمد أحمد ـ أمين الشرطة المسئول عن حركة المرور أمام كنيسة القديسين ليلة الحادث ـ وضع القلم في يده وأدخل الدفتر جيبه, وقرر ألا يقيد مزيدا من المخالفات من الثانية عشرة ليلا حتي الثانية صباحا, موعد نهاية ورديته في المكان!
لم يكن سهوا ولا استهتارا, ولا حتي مخالفة للتعليمات, لأنه لم تكن هناك تعليمات أصلا بخصوص السيارات المتزاحمة أمام أبواب الكنائس الكبيرة وقت صلاة رأس السنة والاحتفال بالعام الجديد, علي اعتبار أن هذا الوقت استثنائي قصير, والأوجب أن يتسامح رجال المرور مع زوج يوصل أسرته للكنيسة, أو مع شاب جاء بسيارته ينتظر خروج أمه من بعد الصلاة, حتي لا تفسد غرامات الانتظار في الممنوع ـ أثناء هذه الساعات القليلة ـ بهجة الاحتفال, أو فرحة الصلاة في الكنيسة والاستبشار بالعام الجديد.
من فوق فراشه في مستشفي جيهان ـ قسم العناية ـ قال نادر وهو يغالب دموع عينيه بابتسامة راضية واسعة: أشعر بأني مت فعلا, وأني من الذين قتلوا في الانفجار ليلة الحادث, لكن الله أحياني وأفقت من جديد فوجدت نفسي غارقا في بركة من الدماء والجميع يجري في كل اتجاه ويصرخ لكني لا أسمع أحدا!
أري نفسي بلا ملابس والدماء تنزف من نصفي الأسفل بلا توقف, لكني لا أستطيع حتي الاستغاثة أو طلب المساعدة من أحد, النار والغبار والشظايا والأشلاء في كل مكان حولي وأنا فاقد القدرة علي السمع والحركة والكلام.
بعد فترة لا أعلم مداها, استسلمت لفكرة الموت وأرحت رأسي علي الأرض وأنا أنطق الشهادة, وانقطعت عندها كل صلة لي بالدنيا, لكني وجدت نفسي أفيق وأنا في يد من يحملوني ويجرون بي علي سلالم المستشفي, ويتصايحون بصوت عال, استطعت حينها أن أميز معناه.
كانت مستشفي ماري جرجس القريبة جدا من الكنيسة وسمعت بعضهم يقول: أخرجوه من هنا.. المسيحيون أولي, لكن أصوات أخري قوية كانت ترد: بل سيدخل( دي حالة إنسانية مسيحي أو مسلم مفيش فرق), والغريب أن الصياح بين الفريقين اشتد حتي شعرت بالخوف ورغبت لو أستطيع أن أسمعهم صوتي.. وأقول لهم: أخرجوني من هنا.
لكن طبيبة شابة في العشرينيات من عمرها ـ ربنا يبارك لها ـ حسمت الخلاف وصممت علي دخولي فورا لغرفة العمليات, لإخراج الشظايا من جسمي, وكنت أري الصليب معلقا في رقبتها.
أنا أدعو لها من قلبي كل يوم, كانت إنسانة بمعني الكلمة, واهتمت طوال الوقت بمتابعة حالتي وطمأنتني, ومعها طبيبان تطوعا يومها للإسعاف والمساعدة, وحاولوا أن يخففوا عني بالمزاح وينسوني ما أنا فيه.
بعد أن تحسنت حالتي نقلوني هنا لمستشفي جيهان, ووجدت حولي في العنبر نفسه معظم عساكر الأمن والحراسة التي كانت معي في وردية الخدمة يومها.
ويكمل نادر: الآن أستعيد مع نفسي تفاصيل ليلة الحادث وأرها تتكرر أمام عيني.. حتي وأنا نائم أحلم بها, وأفيق حزينا مقبوضا.
يومها قبل الساعة الثانية عشرة بنحو ربع ساعة, رأيت رجلا يحمل ابنه مصابا في رأسه ويجري به نحو مستشفي ماري جرجس التي تقع في ظهر الكنيسة, الطفل الصغير كان رأسه ملفوفا بالشاش والدم ينشع من تحته, وهي حوادث متكررة ومتوقعة في الإسكندرية, بالذات في هذا التوقيت, فمن عادات( الإسكندرانية) أن يقذفون الزجاجات الفارغة والأشياء القديمة من الشبابيك والبلكونات قبل أن تبدأ السنة الجديدة بساعة أو بلحظات, رمزا للتخلص من أحزان ومشاكل السنة الماضية واستقبال العام الجديد بلا كراكيب ولا أحمال, وهي عادة يسيء البعض ممارستها فتقع مثل هذه الحوادث, كأن يتهشم الزجاج فوق أحد المارة أو شيء من هذا القبيل, لذا يختفي معظم الناس من الشوارع في هذه الساعة, ويبدو الطريق خاليا هادئا, مثلما كان وقتها أمام كنيسة القديسين.
كل شيء كان طبيعيا, وكنت أسير ذهابا وإيابا أمام الكنيسة.. أسمع الصلوات والترانيم, وأشعر بالسعادة نفسها مع اخواننا المسيحيين الذين يخرجون أو يدخلون الكنيسة للصلاة والاحتفال.
ورأيت السياة الاسكودا الخضراء ـ التي قيل بعدها إنها سبب الحادث ومصدر التفجير ـ ولفتت نظري وهي تقف صفا ثانيا, لكني تصورت أنه شاب ينتظر زوجته أو أمه وأباه حتي ينتهيا من الصلاة, فتسامحت وامتنعت عن تسجيل مخالفة للسيارة علي أساس أنه ظرف طارئ وموقف إنساني, والمسألة لن تستغرق وقتا.
لكني أذكر جيدا جدا شكل السيارة, ومتأكد أنه لم يكتب علي خلفيتها عبارة( والبقية تأتي..) التي أشاع بعض الناس أنهم رأوها مكتوبة بوضوح عند لوحة أرقام السيارة نفسها, ولو أن جملة كهذه كانت مكتوبة عليها لكانت استوقفتني وشدت انتباهي, لدرجة أني حين أعيد التفكير في شكل السيارة وملابسات الحادث.. أشعر أنها أساسا لم تكن مصدر القنبلة التي انفجرت فينا يومها(!).
يبكي نادر بدموع لا يستطيع السيطرة عليها, ويقول حسبي الله ونعم الوكيل في اللي عملها.. حسبي الله ونعم الوكيل في اللي عمل فينا كده).